ليس هناك دخان بلا نار، والتصريحات العلنية التي تصدر من طهران وتل أبيب لم تأتِ من فراغ. فكل طرف يسعى إلى إيصال رسائل واضحة ليس فقط للخصم، بل أيضًا لحلفائه ومنافسيه الإقليميين والدوليين. وفي زمن الإعلام المفتوح، باتت الكلمات تساوي أحيانًا الضربات العسكرية. ووسط هذا الضجيج الإعلامي، تحوّلت التصريحات إلى عامل رئيسي في تأجيج التوتر.
في الأيام الأخيرة، خرج كبار المسؤولين من الطرفين ليتحدثوا بوضوح. قادة إيران أكدوا استعدادهم لـ"إبادة تل أبيب" في حال شُنّ هجوم عليهم، بينما هددت إسرائيل بـ"ضربات استباقية" في حال اقتربت طهران من السلاح النووي. مثل هذه الكلمات لا تمر مرور الكرام، فهي تغيّر التوازنات وتؤثر على قرارات كبرى، حتى داخل عواصم لا علاقة مباشرة لها بالصراع.
شرارة التصريحات الأولى
خطاب القادة الإيرانيين: نبرة تصعيدية لا هوادة فيها
خلال الأيام الماضية، تصدّرت تصريحات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي عناوين الأخبار. قال خامنئي في خطاب علني إن "أي اعتداء إسرائيلي على مصالحنا سيقابل برد مدمر"، مضيفًا أن إيران لن تسمح بأن تُملى عليها شروط بخصوص برنامجها النووي. رئيسي بدوره وصف إسرائيل بأنها "سرطان يجب اقتلاعه"، وهي عبارة تعود للخطاب الثوري الإيراني منذ عقود، لكنها أخذت منحى أكثر حدة اليوم.
لا تفوت أيضا : "لماذا تتدخل أمريكا في غزة؟"
ليس هذا فحسب، فقد أجرى وزير الخارجية الإيراني مقابلة مع قناة روسية، أكّد فيها أن طهران لن تتردد في استخدام أدواتها في اليمن وسوريا ولبنان "إذا لزم الأمر"، مشيرًا إلى أن الرد الإيراني لن يكون تقليديًا. تصريحات كهذه فتحت باب التساؤلات: هل تستعد إيران فعليًا لحرب إقليمية؟ أم أنها تستخدم لغة التهديد لتحقيق مكاسب تفاوضية؟
في الداخل الإيراني، لاقت هذه التصريحات ترحيبًا في أوساط المحافظين، لكنها أثارت قلق البعض من جر البلاد إلى مواجهة لا طاقة لها بها. أما على الصعيد الدولي، فقد دقت التصريحات ناقوس الخطر، وبدأت العواصم الغربية بمراقبة التحركات العسكرية في المنطقة عن كثب.
تصريحات إسرائيلية: التهديد بالحرب وتحذيرات واضحة
لم تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خرج بتصريحات مباشرة قال فيها إن "الوقت ينفد"، وإن إسرائيل "لن تسمح لإيران بالاقتراب من القنبلة النووية، وستتحرك عسكريًا إذا اقتضى الأمر". وأضاف أن "طهران تظن أننا نتردد، لكنها ستتفاجأ".
كما تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي في مقابلة مع شبكة CNN، مؤكدًا أن إسرائيل تمتلك معلومات استخباراتية دقيقة عن تحركات إيران، وأنها جاهزة لشن ضربة وقائية إذا لزم الأمر. هذه التصريحات ترافقت مع مناورات عسكرية ضخمة قرب الحدود الشمالية لإسرائيل، وطلعات جوية تجريبية لطائرات مقاتلة جديدة، في رسالة واضحة مفادها: "نحن لا نمزح".
لكن اللافت أن بعض السياسيين داخل إسرائيل دعوا إلى التروي، محذرين من أن ضربة غير محسوبة قد تفتح الباب أمام حرب متعددة الجبهات، خاصة في ظل التوتر القائم مع حزب الله في لبنان وحماس في غزة. وهذا ما جعل التصريحات الإسرائيلية تبدو أحيانًا منقسمة بين التصعيد والدعوة للتهدئة.
تصريحات أمريكية وأوروبية: بين القلق والدعم
موقف واشنطن من التصعيد الإيراني والإسرائيلي
منذ بداية التصعيد بين إيران وإسرائيل، كانت أعين العالم تتجه مباشرة نحو الولايات المتحدة. ففي كل مرة تصدر فيها تصريحات نارية من طهران أو تل أبيب، لا يتأخر الرد الأمريكي كثيرًا، سواء عبر البيت الأبيض أو وزارة الخارجية أو حتى عبر البنتاغون. وقد قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مؤخرًا في مؤتمر صحفي إن "التصعيد في المنطقة مقلق للغاية، وأي تحرك أحادي سيُعتبر تهديدًا للاستقرار العالمي".
ومع ذلك، هناك نوع من التوازن في الخطاب الأميركي. فواشنطن لا تريد الانخراط في حرب جديدة، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تجاهل التهديدات المتزايدة ضد إسرائيل، الحليف الأبرز لها في الشرق الأوسط. ومن هنا جاء تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي الذي شدد على أن "الولايات المتحدة تساند إسرائيل، ولكنها تفضل المسار الدبلوماسي كخيار أول".
الموقف الأمريكي يعكس مأزقًا واضحًا: الضغط على إيران لوقف تخصيب اليورانيوم، دون الوصول إلى مواجهة عسكرية قد تُغرق المنطقة في فوضى، خصوصًا في ظل وجود القوات الأميركية المنتشرة في دول الخليج، والتي ستكون أهدافًا مباشرة لأي رد إيراني.
ردود أوروبا: دعوات للتهدئة ومخاوف من انفجار الوضع
أوروبا، بدورها، لم تقف على الحياد، لكنها تبنت لهجة أقل حدة. وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أصدروا بيانات مشتركة تدعو الطرفين إلى "ضبط النفس والعودة إلى طاولة المفاوضات النووية". لكن حتى هذه التصريحات لم تكن كافية لتهدئة المخاوف المتزايدة، خاصة بعد أن أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران باتت "على بعد أسابيع" من امتلاك يورانيوم مخصب بدرجة كافية لصنع سلاح نووي.
في مقابلة صحفية مع رئيسة المفوضية الأوروبية، قالت إن "أي اشتباك مباشر بين إيران وإسرائيل ستكون له عواقب على أوروبا، خصوصًا في ملف الطاقة وسلاسل الإمداد". هذا التصريح يوضح حجم القلق الأوروبي، حيث تخشى دول الاتحاد الأوروبي من أن يتسبب أي انفجار في أسعار النفط والغاز، ما سيزيد من أزماتها الاقتصادية الحالية.
ورغم محاولات بعض الدول كإيطاليا وإسبانيا للوساطة، إلا أن الثقل الحقيقي يبقى في يد واشنطن، بينما تكتفي أوروبا بلعب دور الوسيط الهادئ والداعي للتهدئة.
الإعلام العربي والدولي: كيف نُقلت الرسائل؟
تحليل تغطية قناة الجزيرة والعربية للحدث
وسائل الإعلام العربية لعبت دورًا كبيرًا في تسليط الضوء على التصريحات النارية بين إيران وإسرائيل. قناة الجزيرة، على سبيل المثال، اعتمدت تغطية موسعة تركزت على الجانب الإيراني، مع استضافة محللين إيرانيين وإسلاميين يبررون موقف طهران ويهاجمون المواقف الإسرائيلية والغربية. في المقابل، نقلت القناة تصريحات إسرائيلية مع مداخلات تدعو للتهدئة، لكنها أظهرت بعض التشكيك في نوايا تل أبيب.
على الجانب الآخر، قناة العربية ركزت على تصريحات الجانب الإسرائيلي، وعرضت تحليلات أمنية وعسكرية تصف كيف تخطط إسرائيل للتعامل مع "التهديد النووي الإيراني". كما استضافت محللين من إسرائيل والخليج للحديث عن سيناريوهات الحرب المحتملة، وتضمنت نشرات الأخبار تقارير ميدانية من تل أبيب وواشنطن.
هذا التباين في التغطية يعكس الانقسام العربي في المواقف: بين دول تميل لتأييد إسرائيل بصمت، وأخرى تحتفظ بمسافة من الطرفين، وثالثة تدعم إيران كقوة "مقاومة" في المنطقة.
الصحافة الغربية: بين الانحياز والحيادية
أما الإعلام الغربي فكانت له طبيعته الخاصة. فقد تناولت كبريات الصحف مثل "نيويورك تايمز" و"الغارديان" و"لوموند" التصريحات من الجانبين مع محاولات واضحة لإظهار الحياد، لكنها لم تخفِ قلقها من احتمالية انجرار المنطقة إلى حرب جديدة.
"واشنطن بوست" نشرت تقريرًا خاصًا عن خطورة "الحرب الكلامية" بين الطرفين، مشيرة إلى أن التصريحات الحالية تتجاوز التهديدات التقليدية وتقترب من تبادل الضربات الحقيقية. فيما ركزت "بي بي سي" على ردة الفعل الشعبية في إسرائيل وإيران، حيث يعيش السكان على وقع التهديدات اليومية، مما زاد من وتيرة الخوف وعدم الاستقرار.
الصحافة الغربية رغم تظاهرها بالحيادية، إلا أن مواقف بعض المؤسسات الإعلامية تظهر ميلاً واضحًا للخطاب الإسرائيلي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالملف النووي الإيراني، حيث يتم تصوير طهران كتهديد عالمي.
المواقف الرسمية للدول العربية بعد التصريحات
السعودية والإمارات: تصريحات حذرة وتحركات دبلوماسية
مع تصاعد التصريحات بين إيران وإسرائيل، كان لا بد أن تصدر مواقف رسمية من الدول العربية الكبرى. السعودية، كعادتها، اختارت لهجة معتدلة. فقد صرح وزير الخارجية السعودي أن "المنطقة لا تحتمل حربًا جديدة، ونحن نحث جميع الأطراف على ضبط النفس". هذا التصريح يعكس الموقف السعودي الذي يحاول التوازن بين العداء التاريخي لإيران والعلاقات الهادئة مع الغرب.
لكن في الكواليس، هناك حديث عن تنسيق أمني بين السعودية وإسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالدفاع الجوي وحماية الممرات البحرية في البحر الأحمر. لم تؤكد الرياض هذه المعلومات، لكنها لم تنفها أيضًا، ما يزيد من غموض موقفها الحقيقي.
أما الإمارات، فقد أبدت قلقها عبر بيان رسمي حذرت فيه من "التصعيد الخطير" ودعت إلى "تفعيل الحلول السياسية بدلًا من المواجهات العسكرية". لكن في الواقع، تمتلك أبوظبي علاقات مفتوحة مع تل أبيب، وقد تتأثر مباشرة بأي تصعيد عسكري. لذلك، تتحرك الإمارات بهدوء خلف الستار، تجنبًا لأي خسارة محتملة.
قطر ومصر: التركيز على التهدئة الإقليمية
قطر اختارت أن تلعب دور الوسيط، كما اعتادت في الأزمات السابقة. فقد دعا أمير قطر في مقابلة أجريت معه على هامش مؤتمر دافوس إلى "وقف فوري للتصعيد وإعادة إحياء المحادثات النووية مع إيران". وأكد أن الحوار هو السبيل الوحيد لتجنيب المنطقة "كوارث لا تُحمد عقباها".
أما مصر، فقد أصدرت الخارجية المصرية بيانًا مقتضبًا أكدت فيه رفضها لأي عمل عسكري من أي طرف. وفي الوقت نفسه، أجرى الرئيس السيسي اتصالات مع قادة في أوروبا والولايات المتحدة، محذرًا من "اشتعال حرب لا يعلم مداها إلا الله".
هذه المواقف تعكس رغبة الدولتين في إبقاء المنطقة مستقرة، خصوصًا مع الأزمة الاقتصادية في مصر، والحضور الدبلوماسي الكبير لقطر.