في خضم التصعيد العسكري المستمر في غزة، ومع ازدياد الانتقادات الدولية الموجهة إلى الحكومة الإسرائيلية، يظهر موقف فرنسا برئاسة إيمانويل ماكرون بشكل أكثر وضوحًا، يتراوح بين الإدانة الأخلاقية والدبلوماسية الشديدة، وبين محاولات التأثير في المشهد الدولي المتعلق بالصراع. وهنا يبرز سؤال مهم يتردد في الأوساط السياسية والإعلامية: هل تملك فرنسا فعلاً القدرة على إخضاع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو الضغط عليه لتغيير سياساته؟
الموقف الفرنسي: بين الإنسانية والدبلوماسية
لطالما تبنت فرنسا خطابًا إنسانيًا قويًا تجاه القضايا الدولية، خاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان والنزاعات المسلحة. وفي الملف الفلسطيني، طالما أعلنت باريس دعمها لحل الدولتين، ودعت إلى وقف العنف والعودة للمفاوضات.
خلال الأسابيع الأخيرة، صعّدت فرنسا من لهجتها تجاه إسرائيل، وخاصة بعد التقارير الدولية التي تتحدث عن الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين في غزة. وقد دعا الرئيس الفرنسي صراحة إلى وقف إطلاق النار الفوري وفتح ممرات إنسانية.
لكن، هل تكفي هذه الدعوات وحدها للضغط على نتنياهو؟
حدود القوة الفرنسية
رغم النفوذ الثقافي والسياسي والدبلوماسي الذي تتمتع به فرنسا، فإنها لا تملك نفس أدوات الضغط التي تملكها الولايات المتحدة على إسرائيل. فالعلاقات الأمنية والعسكرية بين تل أبيب وواشنطن أقوى بكثير مما هي عليه مع باريس.
ورغم أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن، فإن قدرتها على فرض إرادة سياسية على دولة مثل إسرائيل — التي تعتمد على دعم أميركي واسع — تظل محدودة ما لم يتم تنسيق المواقف الأوروبية والدولية بشكل جماعي.
وفقًا لموقع France24, فإن الموقف الفرنسي "يستند إلى المبادئ"، لكن باريس لا تملك وسائل ضغط اقتصادية أو عسكرية فعالة على إسرائيل.
تحركات فرنسا الأخيرة: رسائل موجهة أم ضغط فعلي؟
خلال الأزمة الأخيرة، اتخذت فرنسا عدة خطوات، من بينها:
. دعوة مجلس الأمن لاجتماع طارئ.
. التنديد العلني بالهجمات على المدنيين.
. إرسال مساعدات إنسانية إلى غزة.
. التواصل مع قادة دوليين لدعم وقف إطلاق النار.
ورغم أنها خطوات دبلوماسية تعكس اهتمامًا حقيقيًا، فإنها ما تزال في نطاق التحرك الرمزي، دون خطوات عملية مثل تجميد صفقات تسليح أو فرض عقوبات، وهي الأمور التي قد تؤثر فعليًا على حكومة نتنياهو.
ما الذي يمنع فرنسا من اتخاذ موقف أكثر حدة؟
هناك عدة عوامل تعيق فرنسا عن الذهاب أبعد من الإدانة:
1. اللوبي الإسرائيلي في أوروبا: إسرائيل تحظى بدعم قوي داخل عدد من العواصم الأوروبية.
2. الحسابات الداخلية الفرنسية: وجود شريحة من المجتمع الفرنسي تدعم إسرائيل لأسباب دينية أو تاريخية.
3. العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية المعقدة: فرنسا تسعى للحفاظ على توازن في علاقاتها مع العالمين العربي والإسرائيلي.
هل يرد نتنياهو على باريس؟
بينيامين نتنياهو يتمتع بخبرة سياسية طويلة، ويعرف كيف يستخدم لغة "السيادة الوطنية" في مواجهة الانتقادات الخارجية. وردوده على المواقف الأوروبية غالبًا ما تكون رافضة أو مستهزئة، ويعتبر أي نقد موجّه له تدخلًا في "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها".
وفي حالات سابقة، وصف نتنياهو بعض الانتقادات الأوروبية بأنها "نفاق دبلوماسي"، ورفض الامتثال لقرارات الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بشأن المستوطنات أو العمليات العسكرية.
هل يمكن لفرنسا أن تؤثر من خلال الاتحاد الأوروبي؟
ربما تكمن قدرة فرنسا الحقيقية في تحريك الاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة ضد سياسات إسرائيل الحالية، وذلك عبر:
. فرض قيود تجارية على المنتجات القادمة من المستوطنات.
. دعم قرارات ملزمة في مجلس الأمن.
. تجميد اتفاقيات التعاون مع إسرائيل.
. دعم التحقيقات في جرائم الحرب من خلال المحكمة الجنائية الدولية.
لكن هذا الخيار يصطدم بعقبة تشتت المواقف الأوروبية، خاصة أن بعض الدول مثل ألمانيا والنمسا تؤيد إسرائيل بشكل غير مشروط.
الرأي العام الفرنسي: عامل ضغط متزايد
من الملفت أن الشارع الفرنسي، بمكوناته اليسارية والعربية، يعبر عن غضب متزايد من السياسات الإسرائيلية. وقد خرجت تظاهرات عديدة مؤخرًا في باريس ومدن أخرى تطالب الحكومة الفرنسية باتخاذ موقف أكثر صرامة.
هذا الزخم الشعبي قد يدفع النخبة السياسية الفرنسية لتجاوز الخطاب الدبلوماسي، والانتقال إلى خطوات أكثر تأثيرًا. لكن هل سيكون ذلك كافيًا لتغيير سلوك نتنياهو؟ يبقى الجواب رهينًا بتفاعل واشنطن أولاً.
✅ خلاصة المقال
فرنسا قد تكون من بين أكثر الدول الأوروبية صوتًا ضد سياسات إسرائيل الأخيرة، لكنها لا تملك بمفردها الأدوات الكافية لإخضاع نتنياهو. فالتغيير الحقيقي يتطلب:
. تنسيقًا أوروبيًا جماعيًا.
. دعمًا شعبيًا واسعًا.
. مواقف شجاعة من العواصم الكبرى.
حتى ذلك الحين، ستبقى تصريحات فرنسا تحمل قيمة أخلاقية وسياسية، لكنها بلا أنياب حقيقية. وحده التحرك الدولي المتكامل يمكن أن يشكل ضغطًا فعليًا على إسرائيل، ويدفعها لإعادة النظر في نهجها الحالي.